
ثار القرار (غير الملزم) الذي صادق عليه الكونغرس الأمريكي بتقسيم العراق، ضمنا ومن دون أن يسمها إلى ثلاثة كيانات، كردية وسُـنية وشيعية، المزيد من الشكوك التركية حول نوايا وسياسة الولايات المتحدة تُـجاه العراق والمنطقة برمتها.
ويبدو أن تركيا، التي راهنت من خلال عدم مشاركتها في غزو العراق على عدم حصوله في الأساس، ستواصل تلاوة فعل الندم.
في مطلع العام الحالي، كان رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان يعتبر عدم مشاركة تركيا في الحرب "خطأ"، واليوم ينضم حلمي اوزكوك، الذي كان رئيسا للأركان مع بدء الحرب، إلى فريق النادمين بقوله، أنه لو شاركت تركيا في الغزو، فإن الحدود الدولية لم تكن لتتغيّـر ولم يكن الجيش التركي سيشارك في المعارك، لكن كان سيتشكّـل حزام أمني جنوب الحدود داخل العراق، حيث يتم التصدّي لحزب العمال الكردستاني، لكن هذه الفرصة فُـوّتت.
ويُـحمّل رئيس الأركان السابق، حزب العدالة والتنمية المسؤولية عن عدم تمرير "مذكّـرة الفاتح من مارس" في البرلمان، لأن الحزب لم يتّـخذ آنذاك قرارا مُـلزما وترَك حرية التَـصويت على المذكرة لنوابه.
ومنذ تلك اللحظة، خرجت تركيا من المعادلة العراقية وهي لا تزال حتى الآن تُـجرجر ذيول التغيّـرات في الوضع العراقي، ولاسيما نشوء فدرالية كردية في الشمال.
غضب تركي من أمريكا
وجاءت العملية العسكرية النوعية والكبيرة، التي شنّها حزب العمال الكردستاني مساء الأحد 7 أكتوبر الجاري في منطقة شيرناق في جنوب شرق تركيا، والتي أسفرت عن مصرع 15 جنديا وضابطا تركيا، ليرفع بالغضب التركي من مواقف الولايات المتحدة وأكراد شمال العراق إلى مستوى قياسي، ولاسيما إن العملية جاءت بعد أيام قليلة فقط على مقتل 12 مدنيا تركيا في هجوم لحزب العمال الكردستاني على الحافلة التي كانوا يستقلّـونها.
شكّـل مجموع هذه التطورات قناعة راسخة، لم تكن في الأساس غائبة على مستوى القيادات العليا في تركيا، من أن الخطر الأول ليس حزب العمال الكردستاني، الذي يمكن أن يبقى تحت السيطرة، مهما اشتدّت عملياته وامتلاكه دبابات ومدافع (وفقا لإحدى تصريحات رئيس الحكومة اردوغان أثناء مشاركته الشهر الماضي في أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة)!
فرئيس الأركان نفسه الجنرال ياشار بويوك أنيت علّـق على قرار الكونغرس الأمريكي بالقول أن "العراق قريب جدا من التقسيم. إن دولة فدرالية تنشأ في شمال العراق، ستشكل خطرا كبيرا على تركيا، إذ سيكون لهذه الدولة، إضافة إلى البُـعد السياسي، بُـعدٌ أمني يشكِّـل خطرا من الدرجة الأولى على الجمهورية التركية، ستكون لهذه الدولة أبعاد سياسية وأمنية ونفسية، إن المكان الذي يتوجب تركيز تركيا أنظارها عليه، هو ما يتشكّـل في شمال العراق".
وقبل بويوك انيت، كان قائد القوات البرية الجنرال ايلكير باشبوغ يقول: "لقد بلغت التطورات في شمال العراق أبعادا تشكّـل تهديدات على مستقبل تركيا وأمنها، وقد تخلق نموذجا لقسم من مواطنينا (أي الأكراد في تركيا)".
أما رئيس الحكومة، فذهب إلى القول بأن المواجهة مع "الإرهاب" الكردي ستأخذ من الآن فصاعدا منحى مختلفا بالكامل، إلا أنه أردف أنه سيبحث هذا الموضوع بالتفصيل خلال شهر نوفمبر المقبل مع الرئيس الأمريكي جورج بوش أثناء زيارة سيقوم بها إلى واشنطن، ما يُـبقي باب التصعيد العسكري الواسع معلّـقا حتى إشعار آخر.
المعركة مع مَـن في الواقع؟
وربما يفكك النائب عن حزب الحركة القومية دينيز بوليق باشي الشفرة العسكرية والسياسية بشكل أوضح، خصوصا أنه كان يعمل قبل أن يصبح نائبا بعد الانتخابات الأخيرة في وزارة الخارجية.
يقول بوليق باشي، إن المعركة المسلحة مع حزب العمال الكردستاني، لكن الصّراع هو مع مسعود البرزاني، ويضيف أن برزاني يستخدم حزب العمال الكردستاني ورقة تهديد وأداة ضد تركيا، لذا، فإن المطلوب هو إجراءات عسكرية واقتصادية ضد شمال العراق، ومن تمّ إغلاق بوابة الخابور، مشيرا إلى أن الشركات التركية المتواجدة في شمال العراق، هي التي تبني البنية التحتية للدولة الكردية، التي لا ينقص سوى الإعلان عنها، ولكنها لا تستطيع العيش من دون تركيا، واصفا التحالف الشيعي الكردي في العراق بأنه مخالف لطبيعة الأشياء.
وانتقد بوليق باشي واشنطن، التي تجِـد القوة للتخلص من جماعة أنصار الإسلام ولا تجِـدها ضد حزب العمال الكردستاني المتمركز، حيث كان يتمركز أنصار الإسلام، ودعا نائب الحركة القومية إلى منع استخدام أمريكا لقاعدة اينجيرليك في حال استمرت على مواقفها السلبية ضد تركيا.
عملية شيرناق
لكن الكاتب جنكيز تشاندار يجد تناقضا في المواقف التركية، إذ عندما يتحدث باشبوغ مثلا عن "إخوتنا في العرق"، أي التركمان في العراق وما قد يتعرضون له من تهديد يعني تركيا مباشرة، فهذا يقدّم مادة لخصومها من أنها تعتمد سياسة عِـرقية في سياساتها، ويبرِّر لهم القيام بسياسات مماثلة، وهذا ليس من مصلحة تركيا.
في جميع الأحوال، لقد نقل قرار الكونغرس الأمريكي (غير الملزم)، الذي حظي بدعم شيوخ الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، مسألة تقسيم العراق من حيّـز احتمالي إلى ما يُـشبه خريطة طريق أمريكية شِـبه رسمية للمستقبل، معلَـنة ومكشوفة.
ومن دون انتظار، عملية شيرناق العسكرية كان العسكر التركي يهيء المناخات الضاغطة على السلطة السياسية للسير في إستراتيجية مواجهة أكثر حزما تجاه حزب العمال الكردستاني ومن خلفه أكراد العراق.
وبعد عملية شيرناق، ربما جاءت اللحظة المناسبة، ولاسيما للعسكر التركي ليقول للحكومة، إن سياستها الكردية منذ عام 2003 كانت فاشلة، فلا هي نجحت في إرساء دعائم حل سلمي، وفي الوقت نفسه خرجت بعد احتلال العراق مشلولة اليد عسكريا.
وعلى هذا، لم يكن ممكنا للحكومة بعد عملية شيرناق سوى الرضوخ للضغط العسكري والتعهّـد بإرسال مذكرة للبرلمان، لمنح العسكر تفويضا للقيام بعملية داخل شمال العراق.
"النمر التركي اسير القفص الأمريكي"
مع ذلك، فإن الأصوات "الباردة" داخل تركيا ومن كتّاب مرموقين، عادت للتنبيه من الفخ الذي ينصبه حزب العمال الكردستاني من وراء تصعيد عملياته، وهو أنه لا يفعل بهذا التصعيد سوى تفخيخ العملية الديمقراطية في تركيا، والتي قد ترتقي أكثر مع الدستور الجديد الذي يعدّ له، كما تفجير المسار الأوروبي، وبالتالي، إعادة البلاد إلى مناخ التوتير الذي لا تستفيد منه سوى الطبقة العسكرية وحزب العمال الكردستاني.
كذلك، إذا كانت القوات التركية لا تستطيع السيطرة على منطقة جبل غبّار في جنوب شرق البلاد، حيث وقعت عملية شيرناق، فهل ستكون عملية عسكرية خلف الحدود مجرّد نُـزهة أم ستكون بداية لتوريط تركيا في المستنقع العراقي؟
لا تغيب هذه الحقائق عن ذهن رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان، الذي قال بأن سوابق العمليات العسكرية في شمال العراق لم تكن مشجعة ولابد من تحليل الفائدة قبل الشروع بأية خطوة.
وتبقى القناعة السائدة أنه من دون موافقة واشنطن، لا يمكن القيام بأي عملية عسكرية عبر الحدود ضد حزب العمال الكردستاني. وواشنطن لا تزال تعارض أي تغيير في المعادلة العراقية الحالية، الذي قد ينتج عن غزو تركي لشمال العراق، لكن المؤكد أن الشعور المعادي لأمريكا وسط الأتراك والذي يتجاوز 80%، سيتجاوز بعد عملية شيرناق 90%.
في المحصلة، يبقى النمر التركي أسير القفص الأمريكي. فهل يفعلها هذه المرة ويحرّر نفسه؟ الجواب يحمل في طياته من عناصر النفي، ما يفوق عناصر الإيجاب